قضية سلمان رشدي
خلفيات العلاقة المتوترة بين الشرق والغرب
ترجمة وتقديم ثابت عيد
أصل هذا البحث محاضرة ألقاها الباحث المصري الأصل، السويسري الجنسية، الدكتور اسماعيل أمين في زيورخ باللغة الألمانية، في الثامن من مايو سنة 1989، حيث كان المستمعونمن السويسريين والألمان. والحديث إلى غير المسلمين ليس كالحديث لجمهور مسلم. فعندما نخاطب جمهورا أوروبيا، لا يمكننا أن نجادل بالقرآن والحديث، لأنهما ليسا حجة عندهم.وبعبارة أخرى لا يمكننا أن نقنعهم بوجهة نظرنا عن طريق قولنا: »قال الله«، و »قال الرسول [«، لأنهم ليسوا مؤمنين أصلا برسولنا [، ولا بإلهنا. فالمسلمون يقولون: »قال الله، وقال الرسول[«، ويقول الغربيون: »قال أرسطو، وقال أفلاطون، وقال ماركس، وقال كنت، وقال شوبنهور، وقال هيجل، إلى آخره«.
وليست هذه ظاهرة جديدة، أو مستحدثة، بل إنها قديمة قدم الأديان نفسها. ولعل أفضل مثال لمن واجه هذه الظروف هو مدرسة المعتزلة، بعظماء مفكريها(1). ففي مجالس الكلامالتي كان يحضرها فلاسفة المعتزلة، كان هناك قواعد متفق عليها، يسيرون عليها، وحدود لا يتعدونها.
وقد وصف لنا طرق الجدل المتبعة في هذه المجالس أحد مرتاديها، فقال: »... رأيت مجلسا قد جمع الفرق كلها، المسلمين من أهل السنة والبدعة، والكفار من المجوس، والدهرية،والزنادقة، واليهود، والنصارى، وسائر أجناس الكفر. ولكل فرقة رئيس، يتكلم عن مذهبه، ويجادل عنه. فإذا جاء رئيس، من أي فرقة كان، قامت الجماعة إليه قياما علىأقدامهم، حتى يجلس، فيجلسون بجلوسه. فإذا غصّ المجلس بأهله، ورأوا أنه لم يبقَ لهم أحد ينتظرونه، قال قائل من الكفار: قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتج علينا المسلمونبكتابهم، ولا بقول نبيهم، فإنا لا نصدق بذلك، ولا نقر به. وإنما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النظر والقياس. فيقولون: نعم، لك ذلك«(2).
نستشهد بهذه الرواية، لنلفت نظر المسؤولين في الدول الإسلامية الذين لا يفهمون عقلية الغربيين، حيث أنهم كلما اجتمعوا، لبحث وسائل الدفاع عن الإسلام ضد مطاعن أعدائه،وجدناهم يقررون ترجمة عدد من الكتب العربية، المكتوبة أصلا للقاريء المسلم، وذلك لإقناع غير المسلم بصحة العقيدة الإسلامية. فليس مستغربا، ألا تجدي هذه الأساليبنفعا.
وبحث الدكتور أمين هذا - بصرف النظر عن كونه يُخاطب العقلية الأوروبية، وينبهها إلى أشياء ينظر إليها الغربيون بعين الاستغراب - إلا أنه مفيد جدا للقاريء العربي، متخصصاكان، أم غير متخصص. فقد تعمّد الأستاذ أمين أن يستخدم كتابات غربية فقط في بحثه هذا.
ويهم كاتب هذه السطور أن يعرف القاريء العربي أسماء كبار أساتذة الدراسات الإسلامية في الغرب، وأفكارهم، وتطور نظرتهم إلى الإسلام. فليس صحيحا أن كل المستشرقينيشتمون الإسلام. فهناك أقسام للدراسات الإسلامية في جامعات أوروبا وأمريكا يقدم أساتذتها من الدراسات العظيمة، والأبحاث الممتازة، ما تحتاج الجامعات العربية إلى عشراتالسنين، حتى تصل إلى مستواها الرفيع، ونوعيتها المميزة.
ولن نخوض هنا في أسباب هذا التدهور، الممتد إلى جميع جوانب حياتنا، ولكننا نؤكد أن الضعف، أو العلة تكمن في النظام، والقوانين، وليس في الأشخاص، بدليل تفوق العربي فيالدول الغربية التي تسير على نظام عملي ناجح، يُعطي العلماء حقوقهم، ويوفر لهم سبل البحث العلمي، ووسائل الراحة النفسية. بعكس الأنظمة التي نتبعها في عالمنا العربي، حيثنبخس العلماء حقوقهم، ولانعرف قيمة العلم، بل ونعزله عن حياتنا العملية، وكأن هذا لا علاقة له بتلك.
سيقرأ القاريء أسماء، قد تكون جديدة عليه، وخاصة في حقل الاستشراق الألماني، مثل المستشرق الألماني يوسف فان إس Josef van Ess، وهو أستاذ يحترمونه في الغرب، ويعترفونبفضله في مجال تاريخ العقيدة الإسلامية. ولكن يؤخذ عليه(3) أنه مازال يسير على نهج المستشرق جولدتسيهر Goldziher في بعض كتاباته التي تهكم فيها على الإسلام، ونبي المسلمين(4).وقد كتب فان إس رسالة الأستاذية عن أحد مجلدات كتاب »المواقف« للإيجي، كما أنه حقق ونشر بعض المخطوطات الخاصة بعلم الكلام، وهجوم أهل الحديث على عمرو بنعبيد.
وهناك أيضا عالم الأديان السويسري الشهير هانس كينج Hans Küng، وهو عالم فاضل، غزير الإنتاج، واسع الصدر، فصيح اللسان، جهير الصوت. وهو صاحب النظرية المعروفة القائلةبأنه لا سلام عالميا، دون سلام بين الأديان العالمية(5).
وهناك أيضا عميدة الاستشراق الألماني الأستاذة الدكتورة الصديقة أنّا ماري شيملAnnemarie Schimmel التي نشرت حتى لحظة كتابة هذه السطور أكثر من مائة كتاب، تدعو فيها إلىالفهم الصحيح للإسلام، وإلى حوار حقيقي بين الحضارات(6). وقد وهبها الله فصاحة عجيبة، حيث ترتجل الخطب بطريقة فريدة تذكرنا ببلاغة الحجاج، أو زياد بن أبيه.
وهناك المستشرق الانجليزي مونتجومري وات Montgomery Watt، أستاذ الدراسات الإسلامية المعروف(7)، والمستشرق الفرنسي كلود كاهن Claude Cahen، الأستاذ في جامعة السربون(8)،وكذلك المستشرق السويدي تور أندريا - Tor Andrae
كل هذه الأسماء، وغيرها، نريد أن يعرفها القاريء العربي، وأن يُجادلها العلماء المسلمون. فالاحتكاك بالغرب لا مفر لنا منه، والرد عليه، والتأثير فيه، والتأثر به، وأخذ كل ما يقرهالعقل، ولا يناقض الدين، منه، كل هذا، لابد أن يحدث، إذا أردنا أن نسترجع مكانتنا، وموقعنا من الحضارة الإنسانية مرة أخرى.
الترجمة العربية لدراسة الدكتور اسماعيل أمين
١ - تمهيد المؤلف
»الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا«(١)
كيبلينج ٢٩٨١
إنني مدرك تمام الإدراك أنني أعالج في بحثي هذا موضوعا في غاية الحساسية، وأتعرض لإحدى المسائل الراهنة التي مازالت تثير في الشرق والغرب علي السواء ردودَ فعل واسعةالنطاق. لقد ثارت النفوس، وهاجت العواطف هنا وهناك، بطريقة لم يسبق لها مثيل، ولم يستطع أيّ من الطرفين أن يفهم الطرف الآخر. ذلك أنّ تعميمات خطيرة، وآراء غيرموضوعية، وتخيلات تقليدية ثابتة، مازالت تسيطر على الساحة.
فهناك اعتقاد في الغرب المسيحي بأنّ ما حدث في قضية سلمان رشدي - أي ردود فعل العالم الإسلامي على نشر كتاب آيات شيطانية - يُمثل اعتداءً على حرية التعبير عن الرأي.بينما يسود اعتقاد في الشرق الإسلامي بأنّ هناك مؤامرة كبرى ضد الإسلام. فالحوار بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي لا يمكن أن يتم في مثل هذه الظروف، حيث يؤمن كلّمعسكر بصحة وجهة نظره المبنية على آراء غير موضوعية، وأحكام متوارثة.
ما الذي حدث إذن، فأدى بالأمور إلى وضع لا مكان فيه للموضوعية والنزاهة، بل وأدى إلى مايُمكننا وصفه بأنه انفجار لهستيريا جماعية حادة من كلا الجانبين؟ دعونا نلخّص أهمّما حدث:
كاتب انجليزي - من أصل هندي - مسلم الديانة، كتب رواية تتضمن بعض الفقرات التي تهين كلّ مسلم، وتجرحه في صميمه. ذلك أنّ إهانة الرسول [ والسخرية منه، ومن أهل بيته،يكون لهما التأثير نفسه على الحسّ الديني للمسلم مثل طعنة الخنجر المؤلمة. وكرد فعل لذلك تظاهر المسلمون في شتى أنحاء العالم مطالبين بمنع تداول الكتاب. ولكن الهدف الذيتظاهر المسلمون من أجله لم يتحقق، حيث اُعيدت طباعة الكتاب، على الرغم من ذلك، وازداد المسلمون سخطا وغضبا. وفي النهاية توجهت أنظار المسلمين إلى علمائهم - بل وإلىالخميني نفسه - ينشدون فتواهم.
لقد تمّ حظر تداول الكتاب في الدول الإسلامية، وأصدر الخميني فتوى بإهدار دم سلمان رشدي، لأقواله التجديفية (التجديف هو الكفر بالنعم Blasphemie) على الرسول [، وبأنّ منيُقتل في سبيل ذلك، فقد مات شهيدا. وذهب الخميني في فتواه إلى أبعد من ذلك، حيث أعلن أنّ أصحاب دور النشر الذين يكونون على دراية بمضمون رواية سلمان رشدي،ويقومون على الرغم من ذلك بطبعها، ونشرها، هم آثمون، تنطبق عليهم الفتوى ذاتها. لقد كان من الطبيعي جدا أن تقابل مثل هذه الفتوى بالرفض في الغرب، وأن تثير موجة شديدةمن الاستياء. إلا أنّ هذا الاستياء الذي كان محدودا في بدايته، تطور إلى حملة حقيقية ضد الإسلام في أوروبا. ولم تُفرّق هذه الحملة المعادية للإسلام بين آراء المسلمين المختلفة حولهذه القضية، بل إنها راحت تستنكر كل ما هو إسلامي، بلا تمييز، ولا تفريق.
ومرة أخرى أثارت ردود الفعل الغربية استغرابا ودهشة في العالم الإسلامي، وشعر المسلمون بأنهم قد أهينوا في حسهم الديني، وبأن الغرب لا يفهمهم. وساد شعور عام لديهم بأنالغرب يتحصن وراء كتاب سلمان رشدي، لكي يقود حملة صليبية فكرية جديدة ضد المسلمين. ذلك لأنّ أهل السنة في الإسلام كانوا قد أعلنوا رفضهم التام لفتوى الزعيم الشيعيآية الله الخميني. وظهرت في صحف العالم الإسلامي - بصورة شبه يومية - مقالات كانت تفرق بوضوح بين استنكارها للكتاب، ورفضها لفتوى الخميني. بل إنّ عددا كبيرا من المثقفينوالسياسيين المسلمين قد استغلوا هذه الفتوى لإظهار استنكارهم لسياسة الخميني، وعدم تضامنهم معه، وتوجيه نقد شديد اللهجة إلى الحكومة الإيرانية.
بيد أن ردود فعل المسلمين من أهل السنة - الذين يمثلون نسبة ٣٩ في المائة من مجموع المسلمين في العالم - لم تؤخذ بعين الاعتبار، أو روعيت، ولكن ليس بصورة كافية. إن هذه الحقيقةبعينها - أي تجاهل الغرب لرأي ٣٩ في المائة من المسلمين، وتحول الإسلام إلى هدف لحملات وسائل الإعلام الغربية - تمثل أمراً مقلقا للغاية.
فأين نقف نحن الآن؟
إن ما يحدث الآن هو تصادم بين حضارتين مختلفتين. وكلّ فريق يوجه اتهاماته إلى الفريق الآخر، ويعتقد، من خلال رد فعله، بصحة رأيه المبني أصلا على آراء متوارثة، غير موضوعية.فالغرب يرى في الإسلام »دينا ينتمي إلى العصور الوسطى«، وأن المسلمين بسلوكهم هذا ينتهكون مبدأ حرية التعبير عن الرأي، ذلك المبدأ المقدس الذي يعتقد الأوروبيون أنهم لم يصلواإليه، إلا بعد كفاح طويل.
بينما يسود اعتقاد عام في العالم الاسلامي بأن هناك مؤامرة ضد الإسلام، وإحياء للعداوات العقائدية القديمة، وبأن هناك نية لمواصلة الحروب الصليبية من جديد، ولكن بأساليبأخرى. ومن الواضح أن جواً تسوده مثل هذه التوترات، لا يدع مجالا للموضوعية، بل ويصير الحوار فيه مستحيلاً.
والواقع أنني أتساءل: هل كانت رواية سلمان رشدي حقاً هي سبب الاستياء، وحملات التشويه المتبادلة - أي بين الغرب والعالم الإسلامي؟ أم أنها كانت مجرد متنفّس، ومخرج لعداءكامن دفين، وخوف مستتر متبادل بين الطرفين؟
إذا أردنا أن نعالج هذه المسألة، ونجيب على هذا السؤال، سنجد أن كتاب سلمان رشدي نفسه قد أصبح غير ذات أهمية. فأنا شخصيا لم أقرأه، إلا أن أهم الفقرات التي أهانتالمسلمين إلى حدٍّ بعيد قد تمّ نشرها في الجرائد بصورة كافية. وفي رأيي أنه لا ينبغي منع ترجمة ونشر هذه الرواية، كي لا يُضفى عليها نوع من القداسة، فتترجم في الخفاء وكأنها كنز ثمين.ولكي نفهم أسباب ردود الفعل الحادة المتبادلة، علينا أولا أن نستعرض خلفياتها التاريخية.
وقد اعتمدت في بحثي هذا بصورة رئيسية على كتابات أساتذة الدراسات الإسلامية في الغرب، الذين يفترض المرء فيهم الإلمام التام بأمور العالم الإسلامي، فضلا عن تمتعهم بالثقةالكاملة لمختلف الجهات المتخصصة.
٢ - الخلفية التاريخية لردود الفعل في الغرب
لا يمكن للمرء أن يتجاهل أن علاقة الغرب بالاسلام مثقّلة بتصورات مشوهة جدا، وأحكام متأصلة، غير موضوعية. وقد كتب عن ذلك المستشرق الألماني يوسف فان إس Josef van Ess (ت 1) في كتابه المشترك مع عالم اللاهوت السويسري هانس كينج Hans Küng (ت 2)، الصادر سنة ٧٨٩١ بعنوان: "المسيحية والأديان العالمية" ”Christentum und Weltreligionen”، حيث يقول:
"إن ما يسمعه المرء أو يقرأه عن الإسلام في وسائل الإعلام الغربية، والطريقة التي يتحدث بها المثقفون في الغرب عموما عنه، لهو شيء مزعج جداً. مزعج بمعنى مزدوج: أولا بسببالمعلومات غير الصحيحة، والآراء الخاطئة التي تكشف عن نفسها من خلال حكم الأوروبيين على الإسلام. وثانيا بسبب النبرة الشيطانية المخيفة التي يتم بها عرض هذه الأحكامعن الإسلام"(٢).
إن ردود الفعل الأوروبية لما يحدث في العالم الإسلامي كثيرا ما تكون مصحوبة بالخوف، والقلق، والسلوك الدفاعي(٣). ولا غرابة في ذلك، فأوروبا تجهل جيرانها الأقربين من الدولالإسلامية، ولا تعرف إلا القليل عن دينهم وثقافتهم وتاريخهم. فالتبادل الثقافي النشط عبر القرون الطويلة، والعلاقات الاقتصادية الوثيقة مع بلدان العالم الإسلامي، كادت تدخل حيزالنسيان(٤). ولم يتبقَ إلا ذكريات عن النزاعات العسكرية، وهجوم العرب، وصورة الأتراك على أبواب فيينا، أو صور سطحية من هذا القبيل، كثيراً ما تختلط بشخصيات أبطالكارل ماي Karl May (ت 3).
لقد أشار المستشرق الألماني يوسف فان إس Josef van Ess إلى أن الإسلام ليس جزءا من الثقافة الغربية العامة، وأنه لا يُدرّس في حصص التاريخ، ولا في حصص الدين (ت 4). ذلك أنالمدرسين نادرا ما يكونون مهيئين علميا لتدريس الإسلام، هذا على الرغم من تزايد أعداد العمال الأجانب المسلمين (في ألمانيا)(٥).
إن الحاجة الماسة إلى المعلومات الضرورية عن الإسلام يتم تغطيتها - في الحاضر والماضي على السواء - بتعميمات واستنتاجات متعجلة تنقصها الرزانة والتروي. وقد أشار عالماللاهوت السويسري هانس كينج Hans Küng إلى أن الإسلام منذ نشأته - أي منذ ألف وأربعمائة سنة وحتى يومنا هذا - يمثل للمسيحية حقيقة مزعجة وخطيرة ومقلقة، وأنه كان»ومازال يعتبر ظاهرة مخيفة، على الرغم أو بالأصح بسبب الجوار الجغرافي«(٦). وفي العصور التي كان فيها الإسلام مزدهرا، وكان هناك اهتمام متزايد به، كانت أوروبا تقابل هذابالخوف والتشويه واتخاذ موقف دفاعي(٧).
٣ - حملات الطعن المسيحية التقليدية ضد الإسلام
إن الجذور الأصلية لما يجده المرء اليوم من تصورات خاطئة ومشوهة عن الإسلام في أوروبا، والتي لم يعدِ الأوروبيون يدركون أبعادها، إلا أنها لا تزال كامنة في وعيهم، يمكن تتبعها منخلال الموقف السلبي للمسيحية تجاه الإسلام على مر التاريخ الثقافي العام للعالم المسيحي(٨). وكما أثبتت وجهة النظر الحديثة المعالجة للتاريخ بأسلوب نقدي (على سبيل المثال: العالمالفنلندي المتخصص في العهد الجديد(٩) هايكي رايسيننHeikki Räisänen ، ونورمان دانيل Norman Daniel، وسويتمان J.W.Sweetman، وغيرهم)، فإن الكتابة عن الإسلام منذ يوحنا الدمشقي(ت 5) (عاش من حوالي سنة ٠٠٧ حتى ٠٥٧ م) - أي منذ القرن الثامن الميلادي وحتى أواخر القرن التاسع عشر قد اتسمت - وبلا استثناء تقريبا - بنبرة عدائية غير موضوعية(٠١).
فالمسيحية قد رأت في الإسلام دينا جديدا منافسا لها، فقامت تهاجم ما اعتبرته انشقاقا زندقيا وهميا، ناتجا عن خبث إنساني، وإيحاء شيطاني(١١). وتركز هجوم المسيحيينضد الإسلام على ما أسموه "التصوير الشهواني للجنة في القرآن"(ت 6). بل أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فاتهموا نبي الإسلام [ بـ "الانحطاط الأخلاقي"(٢١)، وأنه "قد ارتد عن المسيحيةلأسباب فاسدة حقيرة"(٣١).
لقد اعتبرت أوروبا المسيحية في العصور الوسطى محمّدا [: "النبي الكاذب الذي أطلق العنان للشهوات الجسدية، وبشّر بالزندقة الآثمة، وقضى على وحدة الكنيسة"(٤١).
وبالمعنى هذا نفسه وصف مارتن لوتر Martin Luther (مؤسس الكنيسة البروتستانتية)(ت 7) تعاليم الإسلام على أنها "سموم شيطانية وأعمال جنونية " insania et Diaboli virus(15). وقال عن محمّد [نفسه إنه "صائد المومسات، الدائر في فلك الشيطان"(6١). نعم لقد أيّد لوتر فكرة ترجمة القرآن، إلا أن هدفه من ذلك - كما يقول هانس كينج - لم يكن إلا: "لكي يرى الناس جميعا كيف أنهذا (= أي القرآن) كتاب ملعون فظيع ميؤوس منه، وإنه مملوء بالأكاذيب والخرافات ومختلف الفظاعات"(7١).
وقد كتب أستاذ العلوم الإسلامية الإنجليكاني(8١) (= أي التابع للكنيسة الإنجليزية) وليم مونتجومري واتW. Montgomery Watt (ت 8) في الجزء الأول من كتابه "الإسلام" ”Der Islam I” يقول إنالصورة المشوهة للإسلام في أوروبا، والموقف السلبي للأوروبيين عامة منه "قد ظهرا في عصر الحروب الصليبية (أي في الفترة الممتدة من القرن الحادي عشر حتى القرن الثالث عشرالميلادي) في غرب أوروبا، عندما كان المسلمون لا يحكمون القدس فحسب، بل كانت لهم أيضا دولة قوية في أسبانيا، وكانوا يسيطرون على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط"(9١).لقد تحول الإسلام إلى عدو مرهوب الجانب، ومتفوق على المسيحية من الناحية الثقافية، فكان لابد من محاربته بجميع الوسائل. ومن هنا ولكي يتم إقناع المسيحيين بصدق دينهم،فقد زادت عملية تشويه الإسلام وتحريفه أكثر وأكثر(20)(ت 9).
وقد لخص وات Watt هذه الصورة المشوهة للإسلام في أربع نقاط (ت 10) كما يلي:
١- إن الإسلام دين كاذب، وتحريف مقصود للحقائق.
٢- إن الإسلام هو دين العنف والسيف.
٣- إن الإسلام هو دين التهالك على الشهوات الجسدية.
٤- إن محمّدا [ قد اتبع الشيطان وسار في فلكه، وإنه هو المسيح الدجال(1٢).
إن هذه النقاط الأربع - التي تعود بجذورها إلى العصور الوسطى - لا تبدو غريبة جدا علينا حتى في عصرنا هذا. ويري وات Watt أن هذه الصورة المشوهة للإسلام قد استمرت عبرتلك السنين الطويلة، لأنها هي تقريبا الصورة ذاتها التي رفضها المسيحيون لأنفسهم بوضوح. هذا على الرغم من أن هذه الصورة كانت إلى حد ما في حقيقة الأمر هي الصورة نفسهاالتي يتمنونها لأنفسهم بطريقة غير شعورية، بل ربما كانت هي نفس الصورة المعبرة عن واقعهم(2٢).
في نطاق عصري الرومانسية والتنوير(ت 11) اللذين تميزا بروح التسامح التي سمحت بظهور موقف متحرّر تجاه الأديان غير المسيحية، قام بعض كبار مفكري الغرب بمعالجة الإسلاموحضارته بأسلوب موضوعي(ت 12). وهنا ينبغي التنويه بصورة خاصة بيوهان ولفجانج جوته Johann Wolfgang Goethe (1749-1832) وديوانه الغربي-الشرقي Das West-östliche Diwan (ت 13)(23). أمّاالكاتب الاسكتلندي توماس كارليل Thomas Carlyle (1795-1881)، فقد اعتبر محمدا [ ملهما عظيما، ومحرّكا لطاقات شعبه الكامنة(24)(ت 14). وظهرت في عالم الموسيقى أيضا مواقف أكثرإيجابية، وبخاصة عند ولفجانج أماديوس موتسارت Wolfgang Amadeus Mozart (1756-1791) في أوبرا »اختطاف من السراي« "Die Entführung aus dem Serail” (ت 15)(25). بيد أنّه من المؤسف أنّ كلّ هذهالمواقف الجديدة لم يكن لها أثرٌ يُذكر.
٤- اتجاهان مختلفان
بدأت حركة الاستشراق منذ منتصف القرن التاسع عشر تعالج موضوعات علم الاستشراق من الناحية التاريخية، فظهرت دراسات علمية على سبيل المثال لكل من فيرديناندڤوستنفيلد Ferdinand Wüstenfeld(ت 16)، وجوستاف ڤايل Gustav Weil(ت 17) في السنوات 1858-1860، وكذلك سنة 1864 - احتوت لأوّل مرّة على نصّ ابن اسحاق العربي للسيرة النبوية الشريفةمصحوبا بترجمة ألمانية (ت 18). وفي سنة 1860 ظهرت أيضا أوّل طبعة لكتاب »تاريخ القرآن« ”Die Geschichte des Korans” - للمستشرق الألماني تيودور نولدكه Theodor Nöldeke (ت 19). ثم جاءالمستشرق ألويس شبرنجر Alois Sprenger (ت 20)، فتمكن بواسطة هذه المادة العلمية من تصنيف كتابه المنشور 1861-1865 »حياة محمد وعقيدته« ”Das Leben und die Lehre Muhammads” - ويعتبرهذا الكتاب أوّل سيرة للرسول [ تنشر في الغرب معتمدة على المراجع العربية القديمة(26).
وفي العصر الحديث برز اسم العالم الإنجليزي - السالف الذكر - مونتجومري وات Montgomery Watt بسبب انجازاته العظيمة في تطوير منهج البحث العلمي في مجال السيرة النبوية(ت 21)،حيث كتب "محمد في مكة" ”Muhammad at Mecca”(اكسفورد ٣٥٩١)(ت 22)، و"محمد في المدينة" ”Muhammad at Medina”(اكسفورد ٦٥٩١)(ت 23)، و"محمد: نبي ورجل دولة" ”Muhammad Prophet and Statesman”(لندن ١٦٩١). وقد أكد وات بوضوح أنه لا يمكن للمرء أن يحكم على رسول الإسلام [ بالمقاييس الأخلاقية للانجيل، بل يجب النظر إليه كإنسان عاش في شبه جزيرة العرب فيالقرن السابع الميلادي(7٢)(ت 24).
٥- اتجاه علمي جديد
كانت إحدى ثمار الدراسات الاستشراقية الحديثة - التي تتسم بالأسلوب النقدي - توضيح بعض الأمور التي أصبحت في الغرب أيضا من القضايا التي لا مجال للشك فيها. فصار هناكاقتناع بصدق محمّد [ المطلق في إيمانه، وأنه كان على صلة روحية بالذات الإلهية، وأن الله قد اصطفاه من بين عباده ليُنزل عليه الوحي باللسان العربي، وأنه كان خاتم النبيين. كذلكفقد اعترف المستشرقون بأن الرسول الحنيف [ الموحى إليه في مكة قد أصبح مؤسس دولة في المدينة، وكان ذلك يمثل إحدى المراحل الطبيعية لتطور الدعوة الإسلامية(8٢).
ويقول المستشرق الفرنسي كلود كاهن Claude Cahen - الأستاذ بجامعة السربون: "... لا يليق بالمؤرخ المنصف أن يعير اهتمامه للاتهامات التي صدرت عن المهاترات الطائفية القديمة ... بل إنّهذا المؤرخ المنصف لابدّ أن يرى أنّ محمداً [ كان في عداد الشخصيات النبيلة السامية التي سعت في كثير من الحماس والإخلاص إلى النهوض بالبيئة التي عاش فيها أخلاقيا وفكريا" (9٢). ويستطرد العالم الفرنسي قائلا: "وربما أثارت فينا بعض جوانب حياته شيئا من الارتباك تبعا لعقليتنا المعاصرة. فقد أكدت المهاترات على شهوات الرسول الدنيوية وألمحت إلىزوجاته التسع اللواتي اتخذهن بعد وفاة خديجة. لكن الثابت أن معظم هذه الصلات الزوجية قد طبع بطابع سياسي، وأنها استهدفت الحصول على ولاء بعض الأشراف أو بعضالأفخاذ. ثم إن العقلية العربية تقر الإنسان إذا استخدم طبيعته على نحو ما خلقه الله"(30).
ويؤكد وات Watt أن جهود المستشرقين وإنجازاتهم في حقل الدراسات الإسلامية سوف تستمر في عصرنا هذا وفي المستقبل أيضا، بيد أن العلوم الإسلامية قد صارت ميدانا مشتركاللأبحاث يساهم فيه العلماء المسلمون وغير المسلمين على السواء.
لقد حدث تغيّر في وجهات النظر عند معظم المستشرقين، وتوجد الآن رغبة قوية في إقامة حوار مشترك يتم فيه تبادل وجهات النظر بين المسيحية والإسلام في جو يسوده الودوالموضوعية(31).
وعلى الرغم من ذلك فيبدو أن الغربيين - الذين نشؤوا في مجتمعات علمانية مادية - يجدون صعوبة بالغة في تفهم العقيدة الإسلامية. ولذلك فليس مستغربا أن أفضل دراسات الغربيينعن الإسلام وأكثرها موضوعية قد كتبها مسيحيون متدينون. فيبدو أن المتدينين من الناس لا يجدون صعوبة في تفهم الديانات الأخرى، بل ويشعرون بنوع من القرابة تجاه أصحابهذه الديانات الذين يعبدون إلها واحدا مثلهم.
وهكذا نجد أنفسنا أمام تناقض غريب: فمن ناحية هناك الصورة المشوهة للإسلام، الناتجة عن مطاعن الأوروبيين ضد الإسلام في العصور الوسطى، والتي تخفي وراءها مواقفالغرب العدائية تجاه الإسلام، ويظهر ذلك بوضوح في الأبحاث العلمية والكتب الشعبية وكذلك في وسائل الإعلام. ومن ناحية أخرى نجد أن المسيحيين المتدينين بالذات هم أكثر منيستطيع أن يتفهم الإسلام، ويتخذ موقفا ايجابيا منه(32).
كذلك فقد تخلت الكنيسة الكاثوليكية عن موقفها العدائي تجاه الإسلام، ولم تعد حريصة على إبراز خلافاتها مع الإسلام على الدوام. بل إنّها نادت بإبداء تفهم صادق للإسلاموإدراك معانيه. وبالإعلان الديني - وهو البيان المتعلق بالأديان غير المسيحية - الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني سنة ٥٦٩١، بدأت الكنيسة الكاثوليكية "عهدا تاريخيا جديدا"(3٣) على حد تعبير هانس كينج Hans Küng. وقد فتحت هذه السياسة الكنسية الجديدة الباب أمام لقاءات إسلامية-مسيحية مثمرة على المستوى الرسمي وغير الرسمي(ت 25).
٦- استمرار حملات الطعن ضد الإسلام
ولكن الأسلوب الموضوعي الذي اتسمت به حركة الاستشراق الحديثة لم يؤدِّ إلى تصحيح كلي للصورة المشوهة للإسلام لدى الغربيين(4٣). فلا شك أن الاستشراق الحديث قد أدارظهره لحملات الطعن التقليدية ضد الإسلام، كما أنه قام بفحص وتفنيد دقيقين لهذه المطاعن(ت 26). غير أن هذا التحول الجوهري في حركة الاستشراق لم يؤخذ في العالم الإسلاميبعين الاعتبار إلا من قبل المراكز العلمية المتخصصة، دون أن يصل إلى الوعي العام لغير المتخصصين من المسلمين.
ولذلك فإن المسلمين اليوم في وضع لا يمكنهم معه أن يتقبلوا المطاعن الغربية في دينهم دون غضب وانفعال. ذلك أن كل ما يرونه من حولهم يؤكد لهم صحة رأيهم بأن حملات الطعنوالتشكيك المسيحية ضد الإسلام لم تتوقف منذ العصور الوسطى وحتى اليوم، وأن الغرب لم يكف عن الافتراء على الإسلام وتشويه سمعته.
ومن المؤسف له حقا أن يرى المرء المقالات المهاجمة للإسلام(5٣) تنشر في الغرب بصورة مستمرة وخاصة في الجرائد اليومية والمطبوعات الشعبية. وتثير هذه المقالات انطباعا لدىقارئها بأن كاتبيها يتبعون المنهج العلمي في كتاباتهم، وبأنهم على درجة كبيرة من العلم والدراية بعلوم الإسلام. بيد أن الواقع يقول إنّ مؤلفي هذه المقالات لم يفعلوا شيئا أكثر من استعمالبعض المصطلحات المستخدمة في العلوم الإسلامية دون أن يفهموا معانيها، أو فهموها ولكن بصورة خاطئة. وبغض النظر عن أنهم يجرحون شعور المسلمين بسلوكهم هذا، فإن مثلهذه المقالات تؤدي إلى تقوية وجهات النظر التقليدية الخاطئة عن الإسلام، وتحول دون فهم صحيح للإسلام من جانب الغربيين(ت 27).
٧-الصورة السيئة للعرب في الولايات المتحدة الأمريكية
ولابد لنا في هذا السياق أن نشير أيضا إلى الصورة السيئة للعرب في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد وصلت الأمور إلى الحد الذي نجد عنده مرجعا علميا ذا مستوى رفيع مثلالقاموس المعروف ”Merriam-Webster-Thesaurus” يذكر الكلمات التالية كمرادفات للفظ »عربي«: "(العربي هو) إنسان متشرد، صايع، عاطل، لا هدفَ له". ولكن أيضا: "بائع متجول، مساوم،نصّاب، تاجر لا ضمير له". وعندما طلب عرب أمريكا - في بداية الثمانينات من هذا القرن - من ناشري قاموس ”Merriam-Webster-Thesaurus” أن يحذفوا هذه الأوصاف العنصرية - مثلما فعلواهذا من قبل مع اليهود - رفض ناشرو القاموس أن يفعلوا الشيء نفسه مع العرب.
ولا يختلف الأمر في مجال النكت. فكما أثبتت أحدث الدراسات التي قامت بها جامعة كاليفورنيا في Berkeley، فإن النكت المتداولة بين الأمريكيين عن العرب يسيطر عليها موضوعاتمعينة مثل: الغباء والجبن والقذارة والفظاعة.
كذلك فإن من الأشياء المقلقة والمثيرة للريبة في آن واحد ظهور صورة سلبية ومشوهة للعرب في الأفلام ومسلسلات التليفزيون والكتب والمجلات الهزلية المصورة. ونذكر هنا علىسبيل المثال مسلسلات القصص الهزلية المصورة "comic strips" وهي مسلسلات تنشر في الصحف اليومية وتتكون من مجموعة رسومات متتالية ذات معنى فكاهي أو مرتبطبالمغامرات. فيظهر مثلا في مسلسل ”Little Orphan Annie” مواطن عربي، ذو أنف أعقف، وملامح شريرة، اسمه ”Bad Simmel” (Bad = سيء، شرير) - حيث يقوم باختطاف ”Annie”، ويرفض إطلاقسراحها، إلا في مقابل حصوله على فدية في صورة معلومات سرية عن الطاقة.
وحتى فيلم "لورانس العرب" فقد ارتكبت فيه أخطاء تاريخية مهينة، حيث يقدم الفيلم العرب في صورة قوم عاجزين ومنقسمين على أنفسهم بسبب النزاعات القبلية. ويوضح الفيلمكذلك عدم مقدرة العرب على إدارة مدينة دمشق، وأنهم انسلوا منسحبين سرا منها بعد يومين، تاركين أمر إدارتها للإنجليز.
بيد أن الحقائق التاريخية تقول إن العرب قد حكموا دمشق لمدة سنتين (وليس يومين فقط) تحت قيادة الملك فيصل، وذلك قبل أن ينسحبوا من المدينة أمام الجيش الفرنسي (وليسالإنجليزي).
وكما أثبتت الدراسات فإن جذور الصورة السلبية للعرب في الولايات المتحدة تعود في معظمها إلى حملات الطعن المسيحية ضد الإسلام في أوروبا على مر التاريخ. وصارت الصورةالسلبية للعرب مرتبطة بالتصورات المشوهة والخاطئة عن الإسلام. ويجد المرء هذا الموقف السلبي تجاه الإسلام والعرب في القصص الهزلية وأغاني البوب والمسلسلات التليفزيونية،وبقية وسائل الإعلام الأمريكية. ثم تدور العجلة دائرتها، فتحمل وسائل الإعلام الأمريكية هذا الاتجاه العدائي ضد العرب والإسلام مرة أخرى إلى أوروبا، مما يؤدي إلى تعميقالأحكام الخاطئة، وتأصيل التصورات السلبية التقليدية عن الإسلام (ت 28).
٨- العامل الثقافي والنفسي
لكن يبدو أن حملات الطعن التقليدية ضد الإسلام ونتائجها السلبية ليست هي السبب الوحيد المسئول عن الصورة المشوهة للإسلام في الغرب. إذ أن هناك سببا آخر أكثر عمقا منالأول يراه المستشرق السويدي المعروف تور أندريا Tor Andrae (٥٨٨١ - ٧٤٩١) - الذي كان أيضا أسقف مدينة "Uppsala" حيث يقول:
"لا يكفي أن نشير إلى الجهل (بالإسلام)، أو إلى المفاهيم العقائدية القديمة والخاطئة ضد النبي الكاذب. ولا يكفي أيضا أن نشير إلى الكراهية السياسية للكلب التركي Tükenhund - إنالسبب (أي سبب هذه الصورة السيئة للعرب والإسلام في الغرب، وكراهية الغربيين لكل ما له علاقة بهما) أعمق من ذلك بكثير، وربما تكون الجملة الآتية هي أصح تعبير عنه: إنالأقارب أقل الناس فهما بعضهم بعضا".
ويمكننا أن نلخص شرحه لهذه الفقرة كما يلي: يجد المسيحي في الإسلام تصورات عقائدية وأفكارا دينية تذكّره بدينه. إلا أن هذه التصورات والأفكار تقابله بطريقة لم يألفها وأسلوبلم يعهده من قبل. فهو لا يجد في الإسلام شيئا غريبا أو جديدا عليه كل الجدة - مثلما هو الحال، على سبيل المثال، مع أديان الهند والصين. ولذلك فهو لا يكلف نفسه أي عناء لفهم هذاالدين القريب في جوهره من الدين المسيحي(6٣).
ثم إن هناك عاملا آخر يكمن في طبيعة البشر، ويقف حائلا دون فهم الناس بعضهم بعضا. ففي رأيي أن الأوروبيين كثيرا ما يحاولون تحليل مظاهر الحضارات الأخرى تحليلا نقديا منخلال قيمهم وأساليب تفكيرهم الخاصة بهم. والسؤال هنا هو: هل يمكن للمرء أن ينقل بهذه السهولة ألفاظا وتعبيرات - نشأت على مر التاريخ في المجتمعات الأوروبية - هكذا بلا تروإلى ثقافات أخرى لها ما يحكمها من قوانين مختلفة ومقاييس متباينة؟ فلا يمكننا على سبيل المثال أن نستخدم لفظي: "الديمقراطية" و"نظرية الطبقات الاجتماعية"(7٣) لوصف نظامالمجتمع الإسلامي، لأن هذين اللفظين قد نشآ وتطورا نتيجة لظروف سياسية وتطورات اجتماعية معينة حدثت في أوروبا، وبذلك يصعب تطبيقهما على النظام الاجتماعيالإسلامي الذي يختلف جوهريا عن النظم الاجتماعية الأوروبية.
وينبغي أن نشير في هذا السياق إلى أن بعض الألفاظ المستخدمة في ثقافتين مختلفتين كثيرا ما يكون لها في كل ثقافة مدلول مختلف تماما عن مدلولها في الثقافة الأخرى. ذلك أن استعارةلفظ ما من حضارة معينة لها أسلوب التفكير الخاص بها غالبا ما يعني انتزاع مشكلة ما من بيئتها والظروف التي نشأت فيها، ثم إقحامها في مضمون آخر تحكمه علاقات داخليةمتباينة. وعند استخدام هذه الألفاظ المستعارة بعد ذلك، يعتقد مستخدموها - سواء كانوا أوروبيين أو عربا - أنهم يقصدون الشيء نفسه، غير أن الواقع يقول إن كل طرف يقصدشيئا مختلفا عما يقصده الطرف الآخر(ت 29).
٩- خلفيات ردود الفعل في العالم الإسلامي
أشرنا حتى الآن إلى الخلفية التاريخية التي لعبت دورا هاما في صياغة الرأي العام الأوروبي بطريقة لا شعورية. ولنستعرض الآن خلفية الموقف العام في العالم الإسلامي. وعلينا قبلذلك أن نعالج الوضع الراهن للمسلمين، وخاصة فيما يتعلق باحتكاكهم بالغرب منذ القرن التاسع العشر. ذلك أن قضية سلمان رشدي - وما تبعها من أحداث - لم تكن المرة الأولى التيحدث فيها احتكاك بين العالم الإسلامي والغرب. فقد سبق أن تعرض الإسلام - في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية وخاصة في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، في عصر الخليفةهارون الرشيد (٦٨٧ - ٩٠٨ م) ومَن خَلفَه من حكام الدولة العباسية - لتغلغل الفكر الأجنبي من خلال أفكار وآراء واردة من أوروبا المسيحية.
بيد أن الإسلام كان قويا في ذلك الوقت، ولم تكن تحكمه تقاليد جامدة في تلك العصور، فواجه المسلمون هذه التيارات الأجنبية بالدراسة والتحليل، واستطاعوا أن يقتبسوا من هذهالتيارات الأجنبية ما لا يتعارض مع دينهم. وحدث بذلك نوع من امتزاج الثقافات، إلا أن الإسلام ظل هو لب هذه الثقافات وجوهرها، فأعطاها طابعا واحدا، وصار هو المحورالرئيسي الذي يدور حوله كل ما اقتبسه المسلمون من أنظمة أجنبية وأفكار أعجمية.
ثم إن الإسلام بدأ تدريجيا يفقد قوة استيعابه للثقافات الأجنبية، ومقدرته على التكيف الحضاري معها. هذا فضلا عن فقدانه لمركزه السياسي القوي، حتى فقد كل مظاهر القوةهذه كلية. ويمكن أن نحدد بشيء من الدقة الوقت الذي أدرك المسلمون فيه مظاهر تدهورهم الحضاري، ووهنهم الفكري بنزول نابليون أرض مصر سنة ٨٩٧١ م. فمنذ ذلك التاريخوصاعدا كان على المسلمين أن يعوا تماما أنهم قد أصبحوا في وضع لا يستطيعون معه أن يمنعوا الشعوب غير المسلمة من التغلغل في أرض الإسلام.
وهكذا احتلت فرنسا الجزائر، وفرضت حمايتها على تونس والمغرب، وقامت روسيا القيصرية تدريجيا بضم المناطق الإسلامية في القوقاز وآسيا الوسطى. وفي القرن الثامن عشركانت انجلترا قد تمكنت من القضاء على مملكة المغول الإسلامية القوية في الهند (٦٢٥١ - ٧٢٧١ م)، واحتلت مصر بعد ذلك سنة ٢٨٨١ م. وأخيرا احتلت ايطاليا ليبيا سنة ٢١٩١ م.نعم كان هناك كل من إيران والامبراطورية العثمانية كدولتين إسلاميتين لهما شأنهما. إلا أن حتى هاتين الدولتين قد تعرضتا بصورة مستمرة لهجمات القوى الأوروبية التي قامت قبلالحرب العالمية الأولى بتقسيم الامبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ حتى تضمن لنفسها التفوق الاقتصادي والسياسي.
ولم يكن التفوق العسكري للغرب هو وحده المسئول عن إثارة شعور بالضعف والتبعية لدى المسلمين، فقد قوي هذا الإحساس عندما وجد المسلمون أنفسهم مجبرين على التسليموالاعتراف لأوروبا بتفوقها عليهم في المجالات العلمية والصناعية والاقتصادية والسياسية. وأمسى وضع الإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين كما يلي: لم تعد الثقافة الإسلاميةهي الثقافة الملقحة والمؤثرة في العالم الغربي، بل صار الوضع معكوسا. فأصبح العالم الإسلامي واقعا تحت تأثير الحضارة الغربية الحديثة، بل ومستسلما لها تماما.
إن ما حدث كان نوعا من تغلغل الفكر الأجنبي وسيطرة الثقافة الدخيلة على الإسلام، ووصلت هذه التيارات الواردة من الغرب إلى القيادات الفكرية، والدوائر ذات الاهتماماتالسياسية في العالم الإسلامي. وتعتبر هذه الثقافة الدخيلة على الإسلام، والمتمثلة في الأفكار الأوروبية والنظم الغربية في غاية الخطورة لأنها تهاجم الأسس التي يقوم عليها نظامالمجتمع في الإسلام (ت 30) (على سبيل المثال: تطبيق النظم العلمانية الدنيوية في الجمهورية التركية).
ولم يعد لدى المسلمين القوة الكافية ليحيوا حياة يسيرون فيها على درب مثلهم الأعلى المتمثل في الأمة الإسلامية في عصر انتصاراتها وازدهار حضارتها. كما أنهم أضحوا غيرقادرين على تنظيم شئون حياتهم على أساس قوانين الشريعة الإسلامية. وبدت القوى الخلاقة للثقافة الإسلامية وكأنها قد انقطعت عن جذورها الأولى(ت 31).
٠١- العودة إلى القيم الإسلامية
كان الاحتكاك بأوروبا مخيبا لآمال المسلمين، بل أنه صار مرتبطا بالإحساس بالخضوع والمهانة. ونتج عن ذلك أن المسلمين أصبحوا ينظرون إلى واقعهم ومستقبلهم نظرة أقل تفاؤلاعما سبق. وهكذا بدأ المسلمون يعاودون التأمل في الثقافة والقيم الإسلامية، وأدركوا أنهم قد ذهبوا أكثر مما يجب في ارتباطهم بالشرق والغرب، وتذكروا أن الإسلام قد سبق له أنكان حامل راية العلم والثقافة في الماضي.
ونظرا لأن المجتمع الإسلامي لم يسبق له أن فقد صلته بجذوره في أي عصر مضى(8٣)، فقد كان من الطبيعي جدا أن تُطرح فكرة إعادة دراسة الماضي والتأمل في التراث. ويهمنا أننوضح في ذلك السياق أن دراسة تاريخ الحضارة الإسلامية، وتأمل العوامل التي أدت إلى ازدهارها، لايمكن اعتباره بأي حال من الأحوال هروبا من الحاضر(ت 32).
ذلك أنه لا ينبغي أن ننسى أن الشرق الإسلامي لم يسبق له أن فصل بين الدين والسياسة، بمعنى أنه لم يمر بتجربة علمنة الفكر(ت 33)، مثلما فعلت أوروبا في عصر النهضة ومن خلالحركة الفلسفة الإنسانية التي تؤكد على قيم الإنسان وقدرته على تحقيق ذاته عن طريق العقل دون الرجوع إلى الدين(9٣). والمسلمون - كما ذكرنا أعلاه - لم يسبق لهم أن قطعوا صلتهمبجذورهم الأصلية على الإطلاق. فمنذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا يمثل الإسلام محور الدائرة لحياة المسلمين السياسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية. غير أن الأوروبيينيجدون صعوبة بالغة في فهم هذا التغلغل الطبيعي للإسلام في حياة المسلمين، وشموله لجميع جوانب حياتهم. وكما يقول هانس كينج فالأوروبيون ينظرون إلى الدين باعتباره عاملاقائما بذاته ضمن عوامل ثقافية أخرى في الحياة(ت 34). وعلى العكس من ذلك فإن المسلمين حتى عصرنا هذا يعتبرون الدين والحياة والثقافة نسيجا واحدا متشابك الأجزاء.
فالإسلام هو نظرة شاملة للحياة، وهو نظام معيشة يتضمن كل شيء، وهو أسلوب في الحياة ذو معالم واضحة وحدود ثابتة، وأخيرا فهو "طريق الخلاص"(40). وإذا كان هناك اليوممطالبة من جانب بعض الحركات الإسلامية بالعودة إلى الإسلام كما كان في عصره الأول، فلا يمكن أن نعتبر ذلك ايديولوجية جديدة أو دعوة إلى العودة إلى الوراء، كما يحلو لوسائلالإعلام الغربية أن تصور هذا. فهذه الفكرة كانت دائمة الحضور على مدى تاريخ الإسلام برمته. فالدعوة إلى الإسلام الأصلي والعقيدة القويمة كانت تنشط دائما كلما ظهرت عاداتأجنبية وأفكار دخيلة على الإسلام تهدده في كيانه.
وحتى المطالبة بالتطبيق الشامل للشريعة الإسلامية والتي يكثر ترديدها هذه الأيام لا تعني أخذ نظم قانونية من القرن السابع الميلادي وتطبيقها حرفيا على مجتمع القرن العشرين، بلتعني وضع تشريعات وقوانين للعصر الحديث - بظروفه ومتطلباته - من خلال الأسس والمباديء نفسها التي قام عليها التشريع في صدر الإسلام(ت 35).
إن عصر التطبيق المثالي لقواعد الإسلام لم يغب لحظة واحدة عن وعي المسلمين، فضلا عن تأثيره الجلي في جهود الإصلاح الإسلامية المعاصرة. وتسير هذه الجهود والقوى المحركةللعالم الإسلامي في العصر الحاضر في اتجاهين مختلفين: الاتجاه الأول ويمثل التحرر الداخلي، والثاني ويشمل التحرر الخارجي. أما التحرر الداخلي فيهدف إلى إصلاح الإسلام منالداخل، بمعنى تطهيره من كل ما دنسه من شوائب وجهالات، ثم يجتهد الفقهاء المسلمون في إصدار الفتاوي الكفيلة بالتوفيق بين روح الدين ومتطلبات العصر. أما التحرر الخارجيفيعني السعي إلى التحرر من السيطرة الأجنبية المتمثلة أيضا في التبعية الثقافية، فضلا عن العودة إلى الذات في صورتها الأصلية.
ولا تهدف هذه الجهود الإصلاحية إلى الانكماش على النفس، ولكن تعني الوصول - في جو من الحرية ومن خلال القوة الذاتية للإسلام - إلى تفاعل صحي بين القيم الروحية والثقافيةللإسلام من ناحية والتقدم الغربي في مجال العلم والتكنولوجيا من ناحية أخرى.
١١- حب المسلمين للرسول [ ومكانته الخاصة عندهم
إن معاودة التفكير في القيم الإسلامية، ودراسة ما خلفه المسلمون وراءهم من تراث ضخم، يرتبطان ارتباطا وثيقا بمكانة الرسول [ الخاصة عند المسلمين. فالمسلمون ينظرون إلىرسولهم [ باعتباره مبلغا الرسالة الإلهية الخالدة، وأنه "خاتم أنبياء الله تعالى". وتختلف مكانة محمد [ في الإسلام اختلافا كليا عن مكانة المسيح في المسيحية. نعم أن محمدا [ هو مؤسسالدين الإسلامي، بمعنى أنه قد تلقى "كلام الله متمثلا في القرآن الكريم"، إلا أنه "مجرد إنسان خصه الله بنعمة الوحي"(41). فالمسلمون لا ينظرون إلى رسولهم [ باعتباره ذاتا إلهية علىالإطلاق، ولكن باعتباره تجسيدا للتوازن الكامل لجميع القوى الإنسانية(ت 36). وتمثل حياة الرسول [ وأعماله وأقواله قدوة حسنة للمسلمين يحذون حذوها. كما أن اتباع سنته كانومازال غاية كل مسلم صالح(42). ويقتدي المسلمون من حدود أندونيسيا شرقا حتى غرب أفريقيا غربا بمثلهم الأعلى وقدوتهم الحسنة المتمثلة في شخص الرسول [ كما تصورهالأحاديث النبوية الشريفة. وقد أدى ذلك إلى خلق جو مشترك في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فضلا عن توحيد المقاييس الاجتماعية وقواعد السلوك لدى المسلمين بطريقة تثيرالدهشة والعجب(3٤).
وتمثل السنة النبوية الشريفة - بجانب القرآن الكريم - العروة الوثقى والقوة الكبرى المشكّلة لسلوك حوالي مليار مسلم، هم تعداد المسلمين اليوم في جميع أنحاء العالم(4٤). وبجانب توقيرالمسلمين لرسولهم [ وحبهم إياه، فهناك أيضا الآية القرآنية الكريمة التي تقول: {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب ٦٥). فالمؤمنونهنا ينهجون نهج الله وملائكته، حتى صارت عبارة: "صلى الله عليه وسلم" أهم دعاء إسلامي يردده المسلمون ملايين المرات كل يوم. وبهذا يبقى رسول الله [ دائم القرب من المؤمنالذي تحكم تصرفاته وسلوكه حبه لرسول الله [ وثقته به. وصفوة القول أن شخص الرسول [ يمثل محور الحياة الدينية عند المسلمين.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من الطبيعي جدا أن يحظى أهل البيت بشيء من التجليل والاحترام(5٤). وقد تراكم على مر التاريخ عدد لا بأس به من القصص والأساطير التي تدور حولشخص الرسول [ وآله(ت 37). ونظم المسلمون بجميع اللغات التي يتكلمونها أعدادا لا حصر لها من الأناشيد والقصائد التي يمتدحون فيها إنسانية رسول الله [ (ت 38) ويصفونه فيهابالرحمة والشفقة(6٤). ويصل توقير المسلمين لرسولهم [ وإجلالهم إياه في هذه القصائد والأناشيد حدا لا يمكن وصفه أو تخيله(7٤).
وعلى الرغم من ذلك فلا ينبغي أن نتغافل في هذا السياق حقيقة هامة، ألا وهي أن المسلمين يوقرون محمدا [ ويجلونه، ولكن على أساس أنه "عبد الله" - وهذا يعني أن الإنسان الكاملهو في الوقت نفسه أخلص عباد الله(8٤). ويتساوى في حب رسول الله [ الغني والفقير، المثقف والأمي. فهم جميعا يرون فيه قدوتهم الحسنة التي يهتدون بها، ومصدر إلهامهم الحي(9٤).
وتظهر مكانة الرسول [ جلية واضحة في الشهادة التي تقول كلماتها: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، فهذه الشهادة تميز المسلم عن كل أصحاب الديانات الأخرى، وتمثلالدعامة الأولى للإسلام كنظام شامل للحياة. وهي أيضا الركن الأساسي للإسلام كدين له نظام متميز ونظرة متكاملة للحياة(50).
ذلك أن تكليف الرسول [ لم يكن مقصورا على إبلاغ القوانين الإلهية فحسب، بل شمل أيضا قواعد الحياة اليومية(51). فكل هذه القواعد منصوص عليها بوضوح في الشريعة الإسلامية(الشريعة هي الطريق البين الذي ينبغي اتباعه). وتجيب الشريعة بطريقة ملزمة ودقيقة على جميع أسئلة المسلم الخاصة بالسلوك الصحيح تجاه الباريء، وكذلك تجاه أفراد المجتمع(52).وهكذا فهي تنظم كل مجالات الحياة: الدينية والشخصية، وكل ما يخص القوانين المدنية والتجارية إلخ.
لقد حقق الإسلام بذلك نظام حياة ترتبط فيه قواعد الدين بأصول المعاملات الدنيوية بحيث لا يمكن الفصل بينهما(3٥). فما يميز الشريعة الإسلامية عن النظم القانونية الأخرى هوكونها ذات مصادر إلهية، وبالتالي فهي شريعة مقدسة لا يمكن المساس بأصولها. فأساس الشريعة الإسلامية إلهي متمثل في كلام الله تعالى المنزل، وليس مثل القوانين الوضعية الأخرىالقائمة على العمل التشريعي للحكومات(4٥). ولأنها تمثل على وجه الإجمال نظام حياة يشمل العبادات والأخلاق والمعاملات، فإنه من الطبيعي أن يكون الدور الذي تلعبه في حياةالمسلمين أكثر شمولا من الدور الذي يلعبه القانون الكنسي في المسيحية على سبيل المثال، أو القوانين المدنية والجنائية والتجارية المعمول بها في المجتمعات الغربية(5٥).
والمصدر الأساسي للشريعة الإسلامية هو القرآن الكريم الذي يضم بين دفتيه كل ما أوحى به الله إلى رسوله [ على مدى ثلاثة وعشرين عاما، مكلفا إياه بتبليغه والتبشير به. والقرآنبالنسبة للمسلمين هو كلام الله المنزل الذي ظل محفوظا كما هو في اللوح المحفوظ حتى يومنا هذا {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. والقرآن هو أصل القوة التشريعية المطلقة فيالإسلام(6٥). غير أن القواعد التشريعية التي تنص عليها الآيات القرآنية تمثل أسسا ذات طبيعة عامة في معظمها، وهي في الغالب محدودة بحيث لا تكفي لتكوين قانون شامل(7٥).وتأتي سنة رسول الله [ كمصدر مكمل ومبين للأحكام القرآنية. والسنة النبوية الشريفة تعني قدوة المسلمين الحسنة المتمثلة في رسول الله [ وسلوكه في الحياة كما تبينه أقواله وأفعالهوعاداته، وكذلك كل ما قرره من قول أو فعل تم في حضوره (التقرير هنا يعني الموافقة على الشيء عن طريق الإمساك عن الكلام كعلامة على التقرير والقبول). ولا تمثل المكانة المثاليةالحية لمحمد [ قاعدة أساسية للسلوك الاجتماعي والديني والأخلاقي للمسلمين، وكذلك لفهم الفرائض الدينية فهما صحيحا، فحسب، بل أيضا لحل كل ما يجدُّ من مشاكلاجتماعية وعقائدية(8٥).
ولما كانت سنة رسول الله [ تمثل المصدر الرئيسي للشريعة الإسلامية - بعد القرآن الكريم - فإن تجريح رسول الله [ يعني في الوقت نفسه تجريحا وقذفا للشريعة الإسلامية. ويرى المسلم فيذلك مساسا بالقواعد التي يقوم عليها دينه، ويشعر بالإهانة والتجريح، وبأنه مهدد في صميم ذاته. وفي بداية الثلاثينات من القرن العشرين وقع حادث أثبت أن شخص الرسول [ فوقكل تدنيس أو إساءة. فقد كتب مؤلف هندي كتابا هاجم فيه محمدا [ بعنوان: "الرسول العاشق للذة"، وكان عليه أن يدفع ثمن ذلك غاليا، حيث قام صبيان مسلمان سنهما ستة عشروتسعة عشر عاما بقتله. وعلى الرغم من أن هذين الصبيين قد دفعا حياتهما جزاءً لهذا العمل، إلا أن سلوكهما هذا قد أكسبهما عطف الكثير من المسلمين وجعلهم يدعون لهمابالمغفرة والرحمة(9٥).
ومن الصعب على غير المسلم أن يفهم إجلال المسلمين الكبير لرسولهم [ وتوقيرهم إياه باعتباره أكمل إنسان على وجه الأرض. ذلك أن الأوروبي الذي تربى تربية مسيحية يجدصعوبة بالغة في التحرر من الأفكار التي طالما لاقت رواجا على مر القرون الطويلة بأن محمدا [ كان نبيا كاذبا ومخادعا ومحبا للشهوات وداهية سياسيا(60). أما بالنسبة للمسلمين،فالرسول [ هو المثل الأعلى المجسم للتوازن الكلي للقوى الإنسانية (العقلية والنفسية والجسمانية)(61).
وعن هذا المعنى كتب ولفرد كانتويل سمِثWilfred Cantwell Smith - أستاذ الدراسات الإسلامية الكندي - سنة ٦٤٩١ في كتابه "الإسلام في الهند الحديثة" ”Islam in Modern India” يقول: "قديسمح المسلمون بالطعن في الباريء وبالكفر به، فهناك منشورات إلحادية ومجتمعات علمانية. إلا أن شتم محمد [ وتجريح شخصه يثير - حتى في أكثر المجتمعات الإسلامية تحررا - ردفعل شديد التطرف"(62).
وقد لاحظ الشيخ مصطفى المراغي - الرئيس السابق لجامعة الأهر - قبل سنوات طويلة، مدى عدم إدراك الغرب لمكانة الرسول الخاصة عند المسلمين حيث قال لصديقه الأسقفالانجليكاني في مصر: "إن أكبر الأشياء التي يثير المسيحيون بها - دون إدراك منهم - استياء إخوانهم المسلمين، ناتج عن عدم إدراكهم للمكانة الجليلة التي يتمتع بها الرسول عندالمسلمين"(3٦).
٢١- سوء ظن المسلمين بالغرب
كان من نتائج الحروب الصليبية، وحملات الطعن ضد الإسلام التي استمرت على مدى قرون طويلة من الزمان، بالإضافة إلى الخبرات السيئة والمخيبة للآمال مع أوروبا، أن أصبحالمسلمون يستقبلون أي تعليقات صادرة عن الغرب تخص الإسلام بالشك والريبة والحذر. وهبّ العلماء المسلمون يتساءلون عن سبب ظهور مؤلفات في الغرب تعالج سيرة الرسول [بطرق مشوهة ومتباينة إلى حد كبير، على الرغم من أن مؤلفيها قد استخدموا المراجع العربية القديمة نفسها.
وهكذا بدأ العلماء المسلمون يدرسون هذه المصادر العربية القديمة من جديد، آخذين في اعتبارهم ماتوصل إليه أساتذة الدراسات الإسلامية في الغرب من نتائج. وبهذه الطريقةظهرت أيضا في العالم الإسلامي دراسات حديثة تعالج السيرة النبوية الشريفة بأسلوب علمي ومنهج عقلاني(4٦). ثم درس علماء الغرب هذه الدراسات الإسلامية الحديثة (التي ألفهاعلماء مسلمون) بالعناية والتفصيل. ونتج عن هذا التبادل العلمي أن تغيرت صورة الرسول [ لدى علماء الاستشراق في الغرب - كما ذكرنا سالفا - بيد أن هذا التحول الخطير (في حركةالاستشراق) لا يعرفه إلا قلة محدودة من العلماء المسلمين.
فالشرق مازال ينظر إلى حركة الاستشراق الغربي على أنها ظاهرة مريبة ومثيرة للشك. ومازالت الغالبية العظمى من المسلمين تتهم المستشرقين بسوء النية وعدم الكفاءة العلمية،هذا فضلا عن عداوتهم الشديدة للإسلام(5٦).
٣١- الخلاصة
إن حملات الطعن والتجريح التقليدية مازالت تتوالى بنشاط ضد الإسلام فتحدث أثرها وتفعل أفاعيلها. فالريبة وسوء الظن والأحكام الخاطئة والأفكار المشوهة لا تزال موجودةعند كل من المسلمين والغربيين على السواء. ومن هنا فليس مستغربا أن تكون استنتاجات كل طرف عن الآخر خاطئة.
إن المسلمين لم يسعوا بأي حال من الأحوال إلى المساس بمبدأ حرية التعبير عن الرأي، لأن أهمية هذا المبدأ بالنسبة لهم لا تقل عن أهميته بالنسبة للغرب. فالهدف الرئيسي لردود فعلالمسلمين كان الدفاع عن النفس ضد القذف والتجريح. وتجدر الملاحظة هنا أن جميع النظم القانونية في الغرب تسمح بمقاضاة القذف قانونيا.
من ناحية أخرى فإن نظرية التآمر على الإسلام التي يؤمن بها الكثير من المسلمين لايمكن التمسك بها أو ادعاء صحتها، لأن الغرب قد فهم فتوى الخميني على أنها اعتداء على حريةالتعبير عن الرأي ودعوة إلى اغتيال مؤلف الكتاب. وأخيرا - وكما ذكرنا أعلاه - فإن أغلبية المسلمين قد أدانت مؤلف الكتاب بشدة.
كذلك فإن الأحكام الخاطئة والآراء المتوارثة موجودة أيضا في الشرق. وقد بنى المسلمون عليها رد فعلهم الدفاعي ضد ما زعموا أنه حملات طعن قديمة في ثوب جديد، وبسرعةانتشرت نظرية التآمر على الإسلام.
وباختصار فإن ما أريد قوله هنا هو أن كلاً من الشرق والغرب لم يفهم الموقف الحقيقي للطرف الآخر. نعم لقد عجز كل معسكر عن فهم المعسكر الآخر. والسبب في ذلك يرجع إلى أنكل جانب حاول أن يحكم على الجانب الآخر من خلال مقاييسه وتصوراته الخاصة به. فالحوار بين الطرفين لا يمكن أن يتم في مثل هذه الظروف، وبدلا من هذا الحوار الذي كان منالممكن أن يكون مفيدا ومثمرا، فإن كل فريق يتحدث مع نفسه.
ثبت المراجع
Andrae, T.: Die Person Muhammads in Lehre und Glauben seiner Gemeinde. Stockholm 1918
Andrae, T.: Mohammed. Sein Leben und sein Glaube. Göttingen 1932. Reprint: Hildesheim 1977
Bannert, E.: Islam heute - morgen. Wien 1958
Bergsträsser, G.: Islam und Abendland. Auslandsstudien, Bd. 4, Königsberg 1929
Bianca, St.: Architektur und Lebensform. Zürich 1975
Büchner, H.: Erwiderung auf den Artikel "Im Blickfeld - die arabische Welt". In: Wir Brückenbauer, Nr. 7, 15.2.1974; Die Tat. 4.11.1974, S. 1
Buhl, Frants: Das Leben Muhammeds. 3. Aufl. Darmstadt 1961
Busse, H.: Tradition und Akkulturation im islamischen Modernismus (19./20. Jhrhundert). In: Saeculum (1975) 157-165
Busse, H.: Die theologischen Beziehungen des Islams zu Judentum und Christentum. Darmstadt 1988
Cahen, C.: Der Islam I, Vom Ursprung bis zu den Anfängen des Osmanenreiches. Frankfurt/M. 1968. = Fischer Weltgeschichte, Bd. 14
Daniel, N.: Islam and the West. The making of an image. Edinburgh 1960
David, R.: Recht des Islam. In: Einf. in die grossen Rechtssysteme der Gegenwart. München 1966, S. 469-499 und 630-631
Falaturi, A.: Rechtstradition und Strafjustitz im Islam. In: Im Namen Allahs. Frankfurt/M. 1980, S. 59-69 = Ullstein 34509
Gabrieli, F. Die Macht des Propheten. München 1968
Gardet, L.: Der Islam. Aschaffenburg 1961
Gardet, L.: Islam. Köln 1968
Grunebaum, G. E. v.: Studien zum Kulturbild und Selbstverständnis des Islam. Zürich 1969
Grunebaum, G.E.v.: Der Islam im Mittelalter. Zürich 1963
Haarmann, U.: Die Pflichten des Muslims - Dogma und geschichtliche Wirklichkeit. In: Saeculum 26 (1975) 95-110
Hamidullah, M.: Der Islam. Genf 1968
Hartmann, R.: Die Religion des Islam, Berlin 1941
Jeffery, Arthur: "Ibn al-'Arabi’s Shajarat al-Kawn", Studia Islamica X (1959)
Küng, H. / J. vanEss: Christentum und Weltreligionen. Bd. I: Islam. Gütersloh 1987 = GTB 779
Lewis, B.: Der Glaube und die Gläubigen. In: Welt des Islam, Braunschweig 1976
Lexikon der Arabischen Welt. Zürich 1972
Lexikon der Islamischen Welt. 3 Bde. Stuttgart 1974
Manousakis, G.: Die Rückkehr des Propheten. Berg am See 1979
Nöldeke, Theodor: Geschichte des Korans. Hildesheim 1961. Nachdruck der 2. Aufl. Leipzig 1909
Paret, R.: Mohammed und der Koran. Stuttgart 1957 = Urban Bücher 32
Peters, R.: Abendländische Islamkunde aus morgenländischer Sicht. In: Wij en het Midden-Oosten. Nijmegen (1978) 61-72
Pfannmüller, G.: Handbuch der Islam-Literatur. Berlin 1923
Pritsch, E.: Die islamische Staatsidee. Ein geschichtlicher Überblick. In: Zscht f. vergleichende Rechtswissen schaft, 53 (1939) 33-72
Ramadan, S.: Das islamische Recht. Wiesbaden 1980
Räisänen, H.: Das koranische Jesusbild. Helsinki 1971
Robinson, F.: Weltatlas der alten Kulturen: Der Islam. München 1982
Schimmel, A.: Der Islam in unserer Zeit. In: Die Herausforderung des Islam. Hg. von R. Italiaander. Göttingen 1965, S. 11-39
Schimmel, A.: Der Prophet Muhammad als Zentrum des religiösen Lebens im Islam. In: Glauben an den einen Gott. Hg.von A. Falaturi und Walter Strolz. Freiburg i.Br. 1975
Schimmel, A.: Der Islam im Rahmen der monotheistischen Weltreligionen. In: Islam und Abendland.Geschichte und Gegenwart. Hg von André Mercier. Bern 1976, S. 9-29
Schimmel, A.: Und Muhammad ist sein Prophet. Düsseldorf 1981
Smith, W. C.: Modern Islam in India, Lahore2 1947
Sprenger, Aloys: Das Leben und die Lehre Mohammads nach seiner bisher grösstenteils unbenutzten Quellen bearbeitet. Berlin 1861-65. 2. Aufl. 3 Bde. 1869
van Ess, J.: Islam. In: Die fünf grossen Religionen. Hg. von Emma Brunner-Traut. Freiburg in Br. 1974, S. 67-87 = Herderbücherei 488
Vogenbeck, H. F.: Entschleierte Mohammedanerinnen. In: Der Zürcher Oberländer, 18.6.1977
Watt, W. M.: Muhammad at Mecca. Oxford 1953
Watt, W. M.: Muhammad at Medina. Oxford 1956
Watt, W. M.: Muhammad Prophet and Statesman. London 1961
Watt, W. M.: The Influence of Islam on Medieval Europe. Edinburgh 1972 = Islamic Surveys 9; dt.: Der Einfluss des Islam auf das europäische Mittelalter. Berlin 1988
Watt, W. M. / A. T. Welch: Der Islam. Bd.I: Mohammed und die Frühzeit. Stuttgart 1980